أمل نصر
أفق أخر
في تجربة الفنان سعي دائم لاستعادة بهجة الاكتشاف ومتعة المرة الأولى وشغف الانتقال لأفق أخر أكثر دهشة وجاذبية يحفظ قلبه حياً بدلاً من أن تقتله رتابة الإعتياد، وقد وجدته في تجربتي التصويرية الجديدة في عوالم الفنون البدائية وفنون الحضارات القديمة التي طالما سحرتني وانسحبت روحي إليها فكانت تنقلني لحلم مترامي الأطراف ولأرض جديدة لم تكتشف بعد.
كانت القواسم المشتركة بين تلك الفنون هو وحدة الروح الإنسانية واجتيازها ذات الحيرة في مواجهة العالم بقواه المجهولة وظواهره غير المبررة. عصور بكارة الإنسانية وفطرتها الأولي وتعبيرها البصري عن المجهول، كل ما حول الإنسان كان جديدا يستمع بجمال اكتشاف وتفسير المرة الأولى في كل ظاهرة، كل صباح يكتشف جديد، يتأخى مع موجودات الطبيعة ويسمع أصواتها الصداحة النقية، يواجه مجهول جديد ويجابه قوى جديدة وكان الرسم هو لغته الأولى الأقرب والأقدم من القول والكتابة، إن اللجوء للرسم فطرة أصيلة ويكاد التفكير بالصورة أن يكون غريزة أخرى إن جاز التعبير، لقد تخلص من الخوف بطرحه ورسمه تماما كما كان يرسم الحيوان الذي كان يخشى لقاؤه مصوراً نفسه منتصراً في ذلك اللقاء، إنها "بروفة" مسبقة لكيفية مجابهة المجهول من خلال تجسيده ومواجهته والتفوق عليه، فالحيلة العقلية للإنسان تتفوق على القوة الجسدية للحيوان، قدرته على التخيل تنقله لخطوة انتصار جديد في سبيل البقاء، قوة ارادته جعلته يخلق السحر كأداة خارقة يتغلب بها على ما يخاف .
وبتطور التاريخ الإنساني وظهور الحضارات القديمة جاورت الأسطورة السحر عندما وجد أن لديه مايحكيه وأن خبراته التي بدأت في التراكم منحته القدرة على صناعة الأحداث والسرد والمزج بين الخيال والواقع، لأن عقله كان يحلق به لأفاق تتجاوز بقعته المكانية المحدودة. وهو لا يضع الفارق الوهمي ـ الذي أختلقناه في حياتنا المعاصرة بينه وبين الكائنات لذلك يصور مخلوقاته الجديدة التي تمزج بين البشر والزواحف والطيور والأسماك والحيوانات؛ ربما يختار من كل منها الجزء القادر على النفاذ والاختراق، وهو كذلك لايضع حاجزاً بين الأحياء والأموات فأرواح الأجداد مازالت موجودة يستنسخها ويجسدها ويستقوى بها، يصنع الطواطم والتابوهات، ويبجل السحرة والكهنة وكل ما يعتقد أن له القدرة على اختراق المجهول .
تأملت جيدا مفردات الفنون القديمة حتى امتلأت ذاكرتي بها، وحين أبدأ في عملي تبدأ المفردات في التدفق مختلطة بما أجرته عليها مخيلتي من صيغ جديدة وبما امتلكته من قدرة على التأليف لمفرداتي الخاصة وفقا لنفس مبدئها الحر في المزج بين الكائنات. استلهمت روحها في الصياغة العجيبة الفطرية للكائنات ومزجت بينها بلا محاذير، جمعتها في مسرح خاص تتوارد عليه مفردات بدائية وحضارية قديمة من منابع شتى تجتمع معا في أفق جديد، لقد جاءت كل منها لتلقى بجملتها في لقاء متخيل ممثلة عن زمانها؛ صيادو كهوف لاسكو يحاورون شخوص الأستراليين الأصليين، ومنحوتات المايا والأزتيك تحاور تماثيل عين غزال الأردنية ذات الرأسين، وأفروديت اليونانية تحاور عشتار العراقية وفينوس ولندورف البدائية، مراكب ماقبل الأسرات مازالت قادرة على نقلنا لأراض جديدة، وعرائس اليونان العاجية تحاور عرائس نقادا المصرية القديمة، ونساء التيراكوتا السوريات يحاورن نساء التناجرا السكندريات، وحوريات الإنذار من ملحمة أوديسا مازلنا ينذرن السفن، والعيون المحدقة في شخوص النسيج والخزف القبطي مازالت مفتوحة على دهشة عارمة
ومفردات الزودياك القديم مازالت ترسم لنا خرائط الزمن.
إنها رحلة ممتعة من الجدل البصري اجتزتها بيقين يتملكني بأن روح الأجداد مازالت تتردد داخلنا وأن رسائلهم الأولى علينا أن نعيها وأن نعيد إرسالها من زمننا الحالي وأن الاحتفاظ ببكارة أرواحنا هو مايحفظ لنا سر الحياة. ومازلت مستمرة في البحث عن أفق جديد يتردد في أنحاءه صدى حيوات قديمة نحملها في دواخلنا ونضيف لها حياة أخرى جديدة.